والجواب عن ذلك أنَّ الإسلام لمَّا بيَّن حقوق الزوجين، وما يراعيه كلٌّ منهما في حقِّ الآخر، بيَّن أنَّ المرأة إذا بدت منها علامات النشوز، فليكن موقف الزوج تجاهها عادلاً، فلا تأخذه الأهواء أو النزعات الانفعالية، فإنَّ هذا موكل لترتيبات الشارع الحكيم، في علاج تلك المشكلة، فلا يكون الضرب أو الطلاق أولها، ولذا كانت مراتب التأديب كما يلي:
1ـ الوعظ بلا هجر ولا ضرب: قال تعالى: (واللاَّتي تخافون نشوزهنَّ فعظوهنَّ...) أي فَيُذَكَّرن بكتاب الله، وحقوقهنَّ على أزواجهنَّ، فإن أبت الزوجة، ولم ينفع معها الوعظ والتذكير، فينتقل إلى المرتبة الثانية.
2ـ الهجر في المضاجع: قال تعالى: (واهجروهنَّ في المضاجع...) وذلك بأن يولِّيها ظهره في المضجع، أو ينفرد عنها في فراش يخصه، كما يجوز له أن يهجرها فترة طويلة؛ فقد صحَّ عنه صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه هجر نساءه شهراً، ولهذا جوَّز أهل العلم هجر الزوج لزوجه أكثر من ثلاثة أيام بسبب عذره الشرعي لنشوز المرأة، وترفعها عنه كما ذكره الإمام الخطابي في معالم السنن، وغيره من أهل العلم.
وهذا يخص من أحاديث النهي العامة التي تنهى عن هجر المسلم لأخيه المسلم أكثر من ثلاث، كما في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: (لا يحلُّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث) أخرجه البخاري.
3ـ الضرب: كما قال الله تعالى: (واضربوهنَّ) ولا يكنْ ذلك بداية علاج الداء، وليكن هو آخره؛ فإنَّ آخر العلاج الكي، ولذا كان القول الحقُّ من أقوال العلماء ألا يبدأ الرجل بضرب زوجه بداية نشوزها، كما هو مذهب الإمام أحمد، وقول ابن عبَّاس، وغيرهم كثير من أهل العلم.
ثمَّ إنَّ الضرب للزوجة، ليس على إطلاقه بل له عدَّة شروط:
أ ـ أن تصرَّ المرأة على النشوز والعصيان.
ب ـ أن يتناسب نوع العقاب مع نوع التقصير.
ج ـ أن يراعي الرجل، مقصوده من الضرب، وأنَّه للعلاج والتأديب لا غير، فينبغي التخفيف منه بقدر الإمكان، ويتحقق ذلك كما ذكره أهل العلم (باللكزة ونحوها أو بالسواك) ولهذا وصَّى رسول الرحمة محمد ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ أمَّته في حجة الوداع قائلاً: (...اتَّقوا الله في النساء، فإنَّكم أخذتموهنَّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنَّ بكلمة الله، وإنَّ لكم عليهنَّ أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهنَّ ضرباً غير مبرح) وقد عدَّ الألوسي الضرب غير المبرح بأنَّه (الذي لا يقطع لحماً، ولا يكسر عظماً) روح المعاني (5/562)
ويجب كذلك على من ابتلي بترفع زوجته عنه، ولم يكن لها علاج إلا الضرب، بأن يتقي الله في ضربه. قال عطاء: قلت لابن عبَّاس: ما الضرب غير المبرح؟ قال: السواك ونحوه. ويتجنَّب المواضع المخوفة كالرأس والبطن، وكذا الوجه؛ فإنَّ الرسول ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ نهى عن ضرب الوجه نهياً عاماً، ولذا ذكر المحققون من أهل العلم، كالنووي بأنَّ الرجل لو ابتلي بضرب زوجه، وأفضى ذلك إلى تلف بعض أعضائها، بأنَّ زوجها يجب عليه الغرم؛ لأنَّه كما قال النووي تبيَّن بأنَّ ذلك منه للإتلاف لا للإصلاح.
وقد أخرج أبو داود من حديث معاوية بن حيدة القشيري ـ رضي الله عنه ـ قال: قلت: يا رسول الله! ما حقُّ زوجة أحدنا عليه؟ قال: (أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، أو اكتسبت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبِّح، ولا تهجر إلاَّ في البيت) أخرجه أبو داود وصحَّحه ابن الملقن في البدر المنير (8/289) وكذا قال الألباني: (حسن صحيح) في صحيح سنن أبي داود/صـ402.
فهذا هو موقف الإسلام من قضية ضرب المرأة، وليس كما يمثِّله العلمانيون، والذين يقولون إنَّ الإسلام يأمر بضرب المرأة وإهانتها، أو المنهزمون الذين ينفون ذلك عن الإسلام بروح الهزيمة لقلَّة تضلعهم بعلم الشريعة، واطَّلاعهم على النصوص التي تعرضت لذلك، آخذين نصَّا مبتسراً من عدة نصوص من الكتاب والسنة، مع عدم ذكر سباق النص ولحاقه، ليتضح المعنى، وتبين الصورة.
ولا يعني ذلك أنَّ الرجل إذا استخدم هذا العلاج الأخير مع زوجه أنَّه يكرهها، أو يكنُّ لها حقداً؛ كلاَّ... فالرجل قد يضرب ابنه على معصية ارتكبها، وابنه من أحبِّ الناس إليه، لكنه فعل ذلك لأجل حبِّه لابنه، فيكون رجلاً مستقيماً على دينه، ومرضياً عند ربه.
* هل من المعقول أنَّ كيد المرأة أعظم من كيد الشيطان، لأنَّ الله يقول عن النساء (إنَّ كيدكنَّ عظيم) ويقول سبحانه وتعالى عن الشيطان (إنَّ كيد الشيطان كان ضعيفاً)؟!
والحقُّ أنَّ هذه المسألة قد اختلف فيها أهل العلم على قولين:
1ـ أنَّ كيد المرأة أعظم من كيد الشيطان لظاهر نصِّ الآية؛ وممن اختار هذا القول من العلماء المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان؛ حيث يقول في كتابه المذكور (2/217): (كيد النساء أعظم من كيد الشيطان، والآية المذكورة هي قوله: (إنَّ كيد الشيطان كان ضعيفاً) فقوله في النساء (إنَّ كيدكنَّ عظيم) وقوله سبحانه وتعالى في الشيطان (إنَّ كيد الشيطان كان ضعيفاً) يدلَّ على أنَّ كيدهن أعظم من كيده.
ويضيف الشيخ - رحمه الله-: قال مقاتل عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي هريرة قال: قال ـ صلَّى الله عليه وسلَّم-: (إنَّ كيد النساء أعظم من كيد الشيطان؛ لأنَّ الله تعالى يقول: (إنَّ كيد الشيطان كان ضعيفاً) وقال تعالى: (إن كيدكن عظيم) ا.هـ وقال الأديب الحسن بن آية الحسني الشنقيطي:
ما استعظم الإله كيدهنه إلاَّ لأنهن هنَّ هنه) ا.هـ
2ـ الرأي الآخر يرى أنَّ المسألة تحتاج لتوضيح، وتبيين ما في الآيتين من فروق ومن ذلك:
أ ـ أنَّ الظاهر لا مقابلة بين العظيم والضعيف.
ب ـ الكيد بالنسبة للنساء هو لجنسهنَّ، وبالنسبة للشيطان للعموم.
ج ـ كيد الشيطان كان ضعيفاً؛ لأنَّه يمكن دحره والتخلص منه بالاستعاذة، أو الأذان، أو ذكر الله عموماً، وكيد النساء عظيم؛ لأنه من الصعب طردها!
دـ أنَّ قوله تعالى: (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إنَّ كيد الشيطان كان ضعيفا) فالآية تقابل بين من يقاتل في سبيل الله ومن يقاتل في سبيل الطاغوت الذي هو الشيطان، فمن الذي سيكون كيده ضعيفاً؟ لا شكَّ أنَّه الشيطان، فكيد الشيطان بالنسبة لأولياء الله الصادقين ضعيف لا يقدر عليهم، كما أخبر الله تعالى (إنَّه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) فمن كان يسنده القوي فأنَّى يضعف؟!
أمَّا ما ورد في سورة يوسف، فالمقابلة بين كيد المرأة وكيد الرجل، ولا شكَّ أنَّ كيدهنَّ أعظم من كيد الرجل ـ والقصص في ذلك كثيرة جداً ـ وجاء وصف كيدهنَّ على العظمة المطلقة مبالغة في تحقيق ذلك الوصف فيهنَّ، وقد نبَّه على هذه النقطة الشيخ محمد بن صالح العثيمين ـ رحمه الله ـ في بعض دروسه وشروحاته والله أعلم.
فيتبين أن الراجح ـ والله أعلم ـ أنَّ كيد المرأة ليس أقوى من كيد الشيطان، فقد وصف الله كيد المرأة في سياق معين، ووصف كيد الشيطان في سياق معين، وكيد الشيطان أعظم من كيد المرأة، لأنَّ كيد المرأة جزء من كيد الشيطان، ولكن ذكر بعض أهل العلم أنّ كيد الشيطان عن طريق الوسوسة، بينما كيد المرأة عن طريق المباشرة، والمواجهة وهذا يكون له أعظم الدور في التأثير على المقابل.
وليس يعني ذلك أنَّ هذا الكيد يعدُّ مظهراً من مظاهر القوَّة، بل هو من مظاهر الضعف كما بيَّنه الأستاذ الدكتور محمد السيد الدسوقي؛ فكيد المرأة لا علاقة له بكيد الشيطان بحال من الأحوال، لأنَّه أسلوب الضعيف الذي يحاول أن ينال حقَّاً، لا يستطيع الوصول إليه صراحة.
وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.