في الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه { لما خلق الله الجنة أرسل إليها جبريل فقال انظر إليها , وإلى ما أعددت لأهلها فيها , فجاء فنظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها , فرجع إليه وقال وعزتك لا يسمع بها أحد من عبادك إلا دخلها , فأمر بها فحجبت بالمكاره , وقال : ارجع إليها فانظر إليها فإذا هي قد حجبت بالمكاره , فقال وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد . قال : اذهب إلى النار فانظر إليها , وإلى ما أعددت لأهلها فيها , فإذا هي يركب بعضها بعضا , فرجع إليه فقال : وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها , فأمر بها فحفت بالشهوات , فقال : ارجع إليها , فرجع إليها فإذا هي قد حفت بالشهوات , فرجع إليه وقال : وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد } قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح .
الهوى ميل النفس إلى ما يلائمها , وهذا الميل خلق في الإنسان لضرورة بقائه , فإنه لولا ميله إلى المطعم والمشرب والمنكح ما أكل ولا شرب ولا نكح . فالهوى ساحب له لما يريده , كما أن الغضب دافع عنه ما يؤذيه , فلا ينبغي ذم الهوى مطلقا ولا مدحه مطلقا , وإنما يذم المفرط من النوعين وهو ما زاد على جلب المنافع ودفع المضار .
ولما كان الغالب ممن يطيع هواه وشهوته وغضبه أنه لا يقف فيه على حد المنتفع به , أطلق ذم الهوى والشهوة والغضب لعموم غلبة الضرر ; لأنه يندر من يقصد العدل في ذلك ويقف عنده , كما أنه يندر في الأمزجة المزاج المعتدل من كل وجه , بل لا بد من غلبة أحد الأخلاط والكيفيات عليه , فحرص الناصح على تعديل قوة الشهوة والغضب من كل وجه كحرص الطبيب على تعديل المزاج من كل وجه , وهذا أمر يتعذر وجوده إلا في حق أفراد من العالم , فلذلك لم يذكر الله تعالى الهوى في كتابه إلا ذمه , وكذلك في السنة لم يجئ إلا مذموما إلا ما جاء منه مقيدا كقوله صلى الله عليه وسلم { لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به } .
وينبغي للعاقل أن يتمرن على دفع الهوى المأمون العواقب , ليتمرن بذلك على ترك ما تؤذي عواقبه . وليعلم اللبيب أن مدمني الشهوات يصيرون إلى حالة لا يلتذون بها وهم مع ذلك لا يستطيعون تركها , لأنها صارت عندهم بمنزلة العيش الذي لا بد لهم منه .
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى } . وتقدم أن من المهلكات هوى متبعا .
قال العلماء : " كل من ادّعى محبة الله ، ولم يوافق الله في أمره ، فدعواه باطلة " .
وإنك لتقرأ في سير الصحابة الكرام ومن بعدهم ، فتعتريك الدهشة حين تجد منهم الامتثال الفوري للدين ، دون تأخير أو إبطاء ، واستمع إلى أنس رضي الله عنه وهو يصف لنا مشهدا من غزوة خيبر فيقول : " أصبنا حمرا فطبخناها ، فنادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر ، فإنها رجس ، فأكفئت القدور بما فيها ، وإنها لتفور باللحم " ، وقريبٌ من ذلك ما ذكر في يوم تحريم الخمر ، إذ امتلأت طرق المدينة بالخمور المراقة على الأرض ، هذا مع شدة حبهم لها ، وتعلقهم بها منذ الجاهلية ، ولكنهم – رضي الله عنهم – قدموا رضا الله فوق كل شيء ، ولم يتقاعسوا عن طاعته طرفة عين .
قال الإمام ابن القيم : مخالفة الهوى تورث العبد قوة في بدنه وقلبه ولسانه . وقال بعض السلف : الغالب لهواه أشد من الذي يفتح المدينة وحده .
وفي الحديث الصحيح المرفوع { ليس الشديد بالصرعة , ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب } . وكلما تمرن على مخالفة هواه اكتسب قوة على قوته , وبمخالفته لهواه تعظم حرمته وتغزر مروءته . قال معاوية خال المؤمنين : المروءة ترك الشهوات وعصيان الهوى .
وقال بعض السلف : إذا أشكل عليك أمر أن لا تدري أيهما أرشد فخالف أقربهما من هواك , فإن أقرب ما يكون الخطأ في متابعة الهوى . وقال بشر الحافي رحمه الله ورضي عنه : البلاء كله في هواك . والشفاء كله في مخالفتك إياه . .
وقد قيل للحسن البصري رحمه الله : يا أبا سعيد أي الجهاد أفضل ؟ قال جهادك هواك .
قال الإمام المحقق ابن القيم : وسمعت شيخنا يعني شيخ الإسلام ابن تيمية روح الله روحه يقول : جهاد النفس والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين , فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولا حتى يخرج إليهم , فمن قهر هواه عز وساد , ومن قهره هواه ذل وهان وهلك وباد .
الهوى ما خالط شيئا إلا أفسده فإن وقع في العلم أخرجه إلى البدعة والضلالة وصار صاحبه من جملة أهل الأهواء وإن وقع في الزهد أخرج صاحبه إلى الرياء ومخالفة السنة وإن وقع في الحكم أخرج صاحبه إلى الظلم وصده عن الحق وإن وقع في القسمة خرجت عن قسمة العدل إلى قسمة الجور وإن وقع في الولاية والعزل أخرج صاحبه إلى خيانة الله والمسلمين حيث يولي بهواه ويعزل بهواه وإن وقع في العبادة خرجت عن أن تكون طاعة وقربة فما قارن شيئا إلا أفسده
الشيطان ليس له مدخل على ابن آدم إلا من باب هواه فإنه يطيف به من أين يدخل عليه حتى يفسد عليه قلبه وأعماله فلا يجد مدخلا إلا من باب الهوى فيسري معه سريان السم في الأعضاء
اتباع الهوى يحل العزائم ويوهنها ومخالفته تشدها
وتقويها والعزائم هي مركب العبد الذي يسيره إلى الله والدار الآخرة فمتى تعطل المركوب أوشك أن ينقطع المسافر قيل ليحيى بن معاذ من أصح الناس عزما قال الغالب لهواه ودخل خلف بن خليفة على سليمان بن حبيب بن المهلب وعنده جارية يقال لها البدر من أحسن الناس وجها فقال له سليمان كيف ترى هذه الجارية فقال أصلح الله الأمير ما رأت عيناي أحسن منها قط فقال له خذ بيدها فقال ما كنت لأفجع الأمير بها وقد رأيت شدة عجبه بها فقال ويحك خذها على شدة عجبي بها ليعلم هواي أني له غالب وأخذ بيدها وخرج وهو يقول لقد حباني وأعطاني وفضلني عن غير مسألة
يخاف على من اتبع الهوى أن ينسلخ من الإيمان وهو لا يشعر وقد ثبت عن النبي أنه قال لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به وصح عنه أنه قال أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى