والأحد الذي لا نظير له والصمد المقصود في الحوائج فمن جحد هذا فقد كفر ولو لم يجحد السورة وقال الله تعالى (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ )(المؤمنون: من الآية91) ففرق بين النوعين وعل كلا منهما كفراً مستقلاً وقال تعالى (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) (الأنعام: من الآية100) ففرق بين كفرين.
والدليل على هذا أيضاً أن الذين كفروا بدعاء اللات مع كونه رجلاً صالحاً لم يجعلوه ابن الله والذين كفروا بعبادة الجن لم يجعلوهم كذلك وكذلك أيضاً العلماء في جميع المذاهب الأربعة يذكرون في ( باب حكم المرتد ) أن المسلم إذا زعم أن لله ولداً فهو مرتد ويفرقون بين النوعين وهذا في غاية الوضوح وإن قال (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (يونس:62)
فقل هذا هو الحق ولكن لا يعبدون ونحن لم نذكر ([1]) إلا عبادتهم مع الله وشكرهم معه وإلا فالواجب عليك حبهم واتباعهم والإقرار بكرامتهم.
ولا يجحد كرامات الأوياء إلا أهل البدع والضلال ودين الله وسط بني طرفين وهدى بين ضلالتين وحق بين باطلين فإذا عرفت أن هذا الذي يسميه المشركون في زماننا [ كبير الاعتقاد ] هو الشرك الذي نزل فيه القرآن وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس عليه فاعلم أن شرك الأولين أخف من شرك أهل زماننا بأمرين أحدهما أن الأولين لا يشركون ولا يدعون الملائكة والأولياء ولأوثان مع الله إلا في الرخاء وأما في الشدة فيخلصون لله الدعاء كما قال تعالى (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً) (الاسراء:67) وقوله (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الأنعام:40) (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ) (الأنعام:41).
وقوله (وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ) إلي قوله ( قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) (الزمر:
وقوله (وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين)(لقمان: من الآية32) فمن فهم هذه المسألة التي وضحها الله في كتابه وهي أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون الله ويدعون غيره في الرخاء وأما في الشدة فيخلصون لله الدعاء كما قال تعالى (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً) (الاسراء:67) وقوله (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الأنعام:40) (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ) (الأنعام:41) وقوله (وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ) إلي قوله (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) (الزمر:
وقوله (وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)(لقمان: من الآية32) .
فمن فهم هذه المسألة التي وضحها الله في كتابه وهي أن المشركين
الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون الله ويدعون غيره في الرخاء وأما في الضراء والشدة فلا دعون إلا الله وحده لا شريك له وينسون سادتهم تبين له الفرق بين الشرك أهل زماننا وشرك الأولين ولكن أين من فهم قبله هذه المسألة فهماً راسخاً والله المستعان الأمر الثاني أن الأولين يدعون مع الله أناساً مقربين عند الله إما أنبياء وإما أولياء وإما ملائكة أو يدعون أشجاراً أو أحجاراً مطيعة لله وليست عاصية وهل زماننا يدعون مع الله أناساً من أفسق الناس والذين يدعونهم هم الذين يحكون عنهم الفجور من الزنا والسرقة وترك الصلاة وغير ذلك .
والذي يعتقد في الصالح أو الذي لا يعصي مثل الخشب والحجر أهون ممن يعتقد فيمن يشاهد فسقه وفساده ويشهده به فإذا تحققت أن الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصح عقولاً وأخف شركاً من هؤلاء فاعلم أن لهؤلاء شبهة يردونها على ما ذكرنا وهي من أعظم شبههم فأصغ سمعك لجوابها وهي أنهم يقولون إن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن لا إله إلا الله ويكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم وينكرون البعث ويكذبون القرآن ويجعلونه سحراً ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ونصدق القرآن ونؤمن بالبعث ونصلي ونصوم فكيف تجعلوننا مثل أولئك.
فالجواب أنه لا خلاف بين العلماء كلهم أن الرجل إذا صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء وكذبه في شيء أنه كافر لم يدخل في الإسلام وكذلك إذا آمن ببعض القرآن وجحد بعضه كمن أقر بالتوحيد وجحد وجوب الصلاة أو أقر بالتوحيد والصلاة وجحد وجوب الزكاة أو أقر بهذا كله وجحد الصوم أو أقر بها كله وجحد الحج ولما لم ينقد أناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم للحج أنزل الله في حقهم ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)(آل عمران: من الآية97) ومن أقر بهذا كله وجحد البعث كفر بالإجماع وحل دمه وماله كما قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) (النساء:150) (أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً) (النساء:151) .
فإذا كان الله قد صرح في كتابه أن من آمن ببعض وكفر ببعض فهو الكافر حقاً وأنه يستحق ما ذكر زالت هذه الشبهة وهذه هي التي ذكرها بعض أهل الأحساء في كتابه الذي أرسله الينا ويقال أيضاً إن كمنت تقر أن من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل شيء وجحد وجوب الصلاة أنه كافر حلال الدم والمال بالإجماع وكذلك إذا أقر بكل شيء إلا البعث وكذلك لو جحد وجوب صوم رمضان وصدق بذلك كله لا تختلف المذاهب فيه وقد نطق به القرآن كما قدمنا فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج فكيف إذا جحد الإنسان شيئاً من هذه الأمور كفر ولو عمل بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر سبحان الله ما أعجب هذا الجهل ويقال أيضاً هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنيفة وقد أسلموا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ويؤذنون ويصلون فإن قال أنهم يقولون إن مسيلمة نبي فقل هذا هو المطلوب إذا كان مع رفع رجلاً إلي رتبة النبي صلى الله عليه وسلم كفر وحل ماله ودمه ولم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة فكيف بمن رفع شمسان أو يوصف أو صحابياً أو نبياً إلي مرتبة جبار السموات ولأرض سبحان الله ما أعظم شأنه (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الروم:59) ويقال أيضاً الذين حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار كلهم يدعون الإسلام وهم من أصحاب علي وتعلموا العلم من الصحابة ولكن اعتقدوا في علي مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم أتظنون أن الصحابة يكفرون المسلمين أم تظنون أن الاعتقاد في تاج وأمثاله لا يضر والاعتقاد في علي بن أبي طالب يكفر ويقال أيضاً بنو عبيد القداح الذين ملكوا المغرب ومصر في زمان بني العباس كلهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويدعون الإسلام ويصلون الجمعة والجماعة فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم وأن بلادهم بلاد حرب وغزاهم المسلمون حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين ويقال أيضاً إذا كان الأولون لم يكفروا إلا لأنهم جمعوا بين الشرك وتكذيب الرسول والقرآن وإنكار البعث وغير ذلك فما معنى الباب الذي ذكره العلماء في كل مذهب ( باب حكم المرتد ) وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه ثم ذكروا أنواعاً كثيرة كل نوع منها يكفر ويحل دم الرجل وماله حتى إنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قبله أو كلمة يذكرها على وجه المزح واللعب ويقال أيضاً الذين قال الله فيهم (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ )(التوبة: من الآية74) أما سمعت الله كفرهم بكلمة مع كونهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجاهدون معه ويصلون ويزكون ويحجون ويوحدون وكذلك الذين قال الله فيهم ( قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ)(التوبة: من الآية65) (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ )(التوبة: من الآية66) فهؤلاء الذين صرح الله فيهم أنهم كفروا بعد إيمانهم وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزح فتأمل هذه الشبهة وهي قولهم تكفرون من المسلمين أناساً يشهدون أن لا إله إلا الله ويصلون ويصومون ثم تأمل جوابها فإنه من أنفع ما في هذا الأوراق ومن الدليل على ذلك أيضاً ما حكى الله عن بني إسرائيل مع إسلامهم وعلمهم وصلاحهم أنهم قالوا لموسى ( اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ)(لأعراف: من الآية138) وقول أناس من الصحابة " اجعل لنا ذات أنواط " فحلف النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا نظير قول بني إسرائيل ( اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً ) ولكن للمشركين شبهة يدلون بها عند هذه القصة وهي أنهم يقولون إن بني إسرائيل لم يكفروا بذلك وكذلك الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم " اجعل لنا ذات أنواط لم يكفروا " فالجواب أن نقول إن بني إسرائيل لم يفعلوا ذلك وكذلك الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلوا ذلك ولا خلاف أن بني إسرائيل لو فعلوا ذلك لكفروا وكذلك لا خلاف في أن الذين نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم لو لم يطيعوه واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا وهذا هو المطلوب ولكن هذه القصة تقيد أن المسلم بل العالم قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري عنها فتفيد التعلم والتحرز معرفة أن قول الجاهل ( التوحيد فهمناه ) أن هذا من أكبر الجهل ومكايد الشيطان وتفيد أيضاً أن المسلم المجتهد إذا تكلم بكلام كفر وهو لا يدري فنبه على ذلك فتاب من ساعته أنه لا يكفر كما فعل بنو إسرائيل والذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم وتفيد أيضاً أنه لو لم يكفر فإنه يغلظ عليه الكلام تغليظاً شديداً كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وللمشركين شبهة أخرى يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أسامة قتل من قال لا إله إلا الله وكذلك قوله " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " وأحاديث أخر في الكف عمن قالها مراد هؤلاء الجهلة أن من قالها لا يكفر ولا يقتل ولو فعل ما فعل فيقال لهؤلاء المشركين الجهال معلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل اليهود وسباهم وهم يقولون لا إله إلا الله وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنيفة وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويصلون ويدعون الإسلام وكذلك الذين حرقهم علي بن أبي طالب بالنار وهؤلاء جهلة مقرون أن من أنكر البعث كفر وقتل ولو قال لا إله إلا الله وأن من جحد شيئاً من أركان الإسلام كفر وقتل ولو قالها فكيف لا تنفعه إذا جحد فرعاً من الفروع وتنفعه إذا جحد التوحيد الذي هو أصل دين الرسل ورأسه ولكن أعداء الله ما فهموا معنى الأحاديث فأما حديث أسامة فإنه قتل رجلاً ادعى الإسلام بسبب أنه ظن أنه ما ادعى الإسلام إلا خوفاً على دمه وماله والرجل إذا أظهر الإسلام ويجب الكف عنه حتى يتبين منه ما يخالف ذلك وأنزل الله تعالى في ذلك (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا)(النساء: من الآية94) أي فتثبتوا فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت فإذا تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام قتل لقوله تعالى (فَتَبَيَّنُوا) ولو كان لا يقتل إذا قالها لم يكن لتثبيت معنى وكذلك الحديث الآخر وأمثاله معناه ما ذكرناه أن من أظهر التوحيد والإسلام وجب الكف عنه إلي أن يتبين منه ما يناقض ذلك والدليل على هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله " وقال " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " هو الذي قال في الخوارج " أينما لقيتموهم فاقتلوهم لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد " مع كونهم من أكثر الناس عبادة وتهليلاً وتسبيحاً حتى أن الصحابة يحقرون صلاتهم عندهم وهم تعلموا العلم من الصحابة فلم تنفعهم ( لا إله إلا الله ) ولا كثرة العبادة ولا ادعاء الإسلام لم ظهر منهم مخالفة الشريعة وكذلك ما ذكرناه من قتال اليهود وقتال الصحابة بني حنيفة وكذلك أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يغزو بين المصطلق لما أخبره رجل أنهم منعوا الزكاة حتى أنزل الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا)(الحجرات: من الآية6) وكان الرجل كاذباً عليهم وكل هذا يدل على أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث التي أحتجوا بها ما ذكرناه ولهم شبهة أخرى وهو ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم ثم بنوح ثم بإبراهيم ثم بموسى ثم بعيسى فكلهم يعتذرون حتى ينتهوا إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا فهذا يدل على أن الاستغاثة بغير الله ليست شركاً والجواب أن نقول سبحان الله من طبع على قلوب أعدائه فإن الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا ننكرها كما قال الله تعالى في قصة موسى ( فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ )(القصص: من الآية15) وكما يستغيث الإنسان بأصحابه في الحرب أو غيره في أشياء يقدر عليها المخلوق ونحن أنكرنا استغاثة العبادة التي يفعلونها عند قبور الأولياء أو في غيبتهم في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الهل إذا ثبت ذلك فاستغاثتهم بالأنبياء يوم القيامة يريدون منهم أن يدعوا الله يحاسب الناس حتى يستريح أهل الجنة من كرب الموقف وهذا جائز في الدنيا والآخرة وذلك أن تأتي عند رجل صالح حي يجالسك ويسمع كلامك فتقول له ادع الله لي كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه ذلك في حياته وأما بعد موته فحاشا وكلا أنهم سألوه ذلك عند قبره بل أنكر السلف الصالح على من قصد دعاء الله عند قبره فكيف بدعائه نفسه ولهم شبهة أخرى وهي قصة إبراهيم لما ألقي في النار اعترض له جبريل في الهواء فقال له ألك حاجة فقال إبراهيم أما إليك فلا قالوا لو كانت الاستغاثة بجبريل شركاً لم يعرضها على إبراهيم أن ينفعه بأمر يقدر عليه فإنه كما قال الله فيه ( شَدِيدُ الْقُوَى)(لنجم: من الآية5) فلو أذن الله أن يأخذ نار إبراهيم وما حولها من الأرض والجبال ويلقيها في المشرق والمغرب لفعل ولو أمره أن يضع إبراهيم في مكان بعيد عنهم لفعل ولو أمره أن يرفعه إلي السماء لفعل وهذا كرجل غني له مال كثير يرى رجلاً محتاجاً فيعرض عليه أن يقرضه أو أن يهبه شيئاً يقضى به حاجته فيأبى ذلك الرجل المحتاج أن يأخذ ويصبر إلي أن يأتيه الله برزق لا منة فيه لأحد فأين هذا من استغاثة العبادة والشرك لو كانوا يفقهون ولنختم الكلام إن شاء الله تعالى بمسألة عظيمة مهمة تفهم مما تقدم ولكن نفرد لها الكلام لعظم شأنها ولكثرة الغلط فيها فنقول لا خلاف أن التوحيد لابد أن يكون بالقلب اللسان والعمل فإن أختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلماً فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كفرعون وإبليس وأمثالهما وهذا يغلط فيه كثير من الناس يقولون هذا حق ونحن نفهم هذا ونشهد أنه الحق ولكن لا نقدر أن نفعله ولا يجوز عند أهل بلدنا إلا من وافقهم أو غير ذلك من الأعذار ولم يدر المسكين أو غالب أئمة الكفر يعرفون الحق ولم يتركوه إلا لشيء من الأعذار كما قال تعالى (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً )(التوبة: من الآية9) وغير ذلك من الآيات كقوله (يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ )(البقرة: من الآية146) فإن عمل بالتوحيد عملاً ظاهراً وهو لا يفهمه أو لا يعتقده بقلبه فهو منافق وهو شر من الكافر الخالص (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ)(النساء: من الآية145) وهذه المسألة مسألة كبيرة طويلة تتبين لك إذا تأملتها في ألسنة الناس ترى من يعرف الحق ويترك العمل به لخوف نقص دنيا أو جاه أو مداراة لأحد
وترى من يعمل به ظاهراً لا باطناً فإذا سألته عما يعتقد بقبله فإذا هو لا يعرفه ولكن عليك بفهم آيتين من كتاب الله أولاهما قوله تعالى (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ )(التوبة: من الآية66).
فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع الرسول صلى الله عليه وسلم كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه المزح واللعب تبين لك أن الذي يتكلم بالكفر أو يعمل به خوفاً من نقص مال أو جاه أو مداراة لأحد أعظم ممن يتكلم بكلمة يمزح بها والآية الثانية قوله تعالى (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النحل:106) (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ)(النحل: من الآية107).
فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أكره مع كون قلبه مطمئناً بالإيمان وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه سواء فعله خوفاً أو مداراة أو مشحة بوطنه أو أهله أو عشيرته أو ماله أو فعله على وجه المزح أو لغير ذلك من الأغراض إلا المكره فالآية تدل على هذا من جهتين الأولى قوله (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ ) فلم يستثن الله تعالى إلا المكره ومعلوم أن الإنسان لا يكره إلا على الكلام أو الفعل وأما عقيدة القلب فلا يكره عليها أحد .
والثانية : قوله تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ) فصرح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد أو الجهل أو البغض للدين أو محبة الكفر وإنما سببه أنه له في ذلك حظاً من حظوظ الدنيا فآثره على الدين .
والله سبحانه وتعالى أعلم
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .